Advertisements

الخميس، 2 ديسمبر 2010

العناصر الخلقية فى المدنية - 4-الاخلاق الاجتماعية

4-الاخلاق الاجتماعية

طبيعة الفضيلة والرذيلة - الجشع - الخيانة - العنف - القتل - الانتحار - انخراط الفرد في جماعة - الإيثار - الكرم - أوضاع السلوك - تحديد القبيلة للأخلاق - الأخلاق البدائية بالقياس إلى الأخلاق الحديثة - الدين والأخلاق

من بين واجبات الوالدين أن ينقلوا إلى الأبناء تشريع الأخلاق، لأن الطفل أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان؛ وإنه ليتلقى إنسانيته شيئاً فشيئاً كلما تلقى جانباً من التراث الخلقي والعقلي الذي خلفه له الأسلاف؛ والطفل من الوجهة البيولوجية سيئ الإعداد للمدنية، لأن غرائزه تهيئه للمواقف الرئيسية والتقليدية ولا تشتمل إلا على الاستجابة للمثيرات التي توافق الغابة أكثر من موافقتها للمدنية؛ كل رذيلة كانت يوماً ما فضيلة ضرورية في تنازع البقاء، ولم نسمها رذيلة إلا لأنها تلكأت في وجودها بعد زوال الظروف التي كانت تستلزم وجودها- فليست الرذيلة- إذن- ضربا من السلوك الراقي، بل هي في العادة ارتداد بالإنسان إلى سلوكه القديم الذي حل مكانه سلوك جديد؛ فمن الغايات التي ينشد تحقيقها التشريع الخلقي أن يوائم نزوات الطبيعة البشرية التي لم تتغير- أو التي تتغير ببطء- مع حاجات الحياة الاجتماعية وظروفها المتغيرة.

لبث الجشع وحب التملك والخيانة والقسوة والعنف أمورا نافعة للحيوان وللإنسان مدى أجيال بلغت في طولها حداً تعذر معه على كل ما لدينا من قوانين وتربية وأخلاق ودين أن تزيلها إزالة تامة؛ ولا شك أن لبعضها- حتى في يومنا هذا- قيمة في حفظ البقاء، فالحيوان يتخم نفسه طعاماً لأنه لا يعلم متى عساه أن يجد القوت مرة أخرى، وهذا الارتياب في ظروف المستقبل هو منشأ الجشع؛ فالرجل من قبيلة "ياقوت" يأكل أربعين رطلا من اللحم في يوم واحد وكذلك تروا قصص كهذه- وأن تكن أقل منها بطولة - عن الإسكيمو والسكان الأصليين في استراليا،

والخيانة ليست عريقة القدم كالجشع، ذلك لأن الجوع أسبق إلى الوجود من الملكية؛ ولعل"الهمج" البدائيين في أبسط صورهم أكثر الناس أمانة "فالكلمة يقولونها مقدسة" كما يقول "كولبن" Kolben عن قبيلة الهوتنتوت "وهم لا يصطنعون شيئاً مما تعرفه أوروبا من وسائل الفساد والخيانة"؛ لكن هذه الأمانة الساذجة زالت بتقدم وسائل المواصلات التي ربطت أجزاء الأرض بعضها ببعض، لأن وسائل أوروبا استطاعت بعدئذ أن تعلم هذا الفن الدقيق للهوتنتوت؛ فالخيانة بصفة عامة تنشأ مع المدنية؛ لأنه في ظل المدنية يزداد المجال الذي يتطلب دهاء السياسة أتساعاً، إذ تزداد الأشياء التي تغري الإنسان بالسرقة، وتربيتنا لأبنائنا تنشئهم على المهارة في ذلك؛ فإذا ما تقدمت الملكية بين البدائيين جاءهم في أثرها الكذب والسرقة.

وكثير من القبائل لا يرتاع أبناؤها إذا أغتال إنسان إنساناً - حتى إن كان القتيل من أبناء العشيرة نفسها - بمثل الجزع الذي كنا نحن المحدثين نقابله به؛ فأهل "فويجي" لا يعاقبون القاتل بأكثر من نفيه حتى ينسى زملاؤه جريمته؛؛ وعند قبيلة "دياك" Dyak يكون للرجل الذي يعود من مثل هذا الصيد البشري بأكبر عدد من الرءوس،

أن يختار من يشاء من بنات القرية، والبنات يشتهينه زوجا لأنهن يدركن أنهن قد يصبحن - بلقاء مثل هذا الزوج - أمهات لرجال شجعان أقوياء .

حيث يغلو الطعام ترخص الحياة، فأبناء الإسكيمو لا مندوحة لهم عن قتل والديهم إذا ما أصبح هؤلاء من الشيخوخة بحيث لا يقوون على شيء، ، وما أقدم الانتحار تخلصا من الدنس والعار؛ وكل شيء قد يكفي سبباً للانتحار.
وأخذت المدنية على نفسها فيما أخذت أن تحول الجشع عند الإنسان إلى اقتصاد، والاعتداء إلى حجاج، والاغتيال إلى مقاضاة، والانتحار إلى فلسفة؛
ومن هنا كان لكل جماعة تشريع أخلاقي تلقنه لأفرادها، وتبني لهم في أفئدتهم ميولا اجتماعية تقلل من الحرب الطبيعية التي هي من شأن الأحياء، وإنما تفعل الجماعة ذلك لأن هؤلاء الأفراد هم حلفاؤها وأركانها المستورة؛ وهي تؤيد طائفة من الخصال أو العادات في الفرد من شأنها أن تعود بالنفع على الجماعة، ولذا تسميها فضائل؛ كما تنفر النفوس من أضدادها بأن تسميها رذائل؛ وبهذه الطريقة ينخرط الفرد - في ظاهرة إلى حد ما - في سلك الجماعة، والحيوان فيه يصبح مواطنا.

وسلوكه الغليظ من علامات سوء تربيته وثقافته البدائية.

إن كل الجماعات البشرية تقريبا تكاد تتفق في عقيدة كل منها بأن سائر الجماعات أحط منها؛ فالهنود الأمريكيون يعدون أنفسهم شعب الله المختار، خلقه "الروح الأعظم" خاصة ليكون مثالا يرتفع إليه البشر، وقبيلة من القبائل الهندية تطلق على نفسها "الناس الذين لا ناس سواهم" وأخرى تطلق على نفسها "الناس بين الناس" وقال "الكاربيون" "نحن وحدنا الناس"، وكان الإسكيمو يعتقدون أن الأوربيين إنما ارتحلوا إلى جرينلندة لينقلوا عنهم طرائق العيش الصحيحة والفضائل ونتيجة ذلك أن الإنسان البدائي لم يكن يدور في خلده أن يعامل القبائل الأخرى ملتزما نفس القيود الخلقية التي يلتزمها في معاملته لبني قبيلته، فهو صراحة يرى أن وظيفة الأخلاق هي تقوية جماعته وشد أزرها تجاه سائر الجماعات، فالأوامر الخلقية والمحرمات لا تنطبق إلا على أهل قبيلته، أما الآخرون فما لم يكونوا ضيوفه، فمباح له أن يذهب في معاداتهم إلى الحد المستطاع.

ليس التقدم الخلقي في التاريخ متمثلا في تحسن التشريع الخلقي بمقدار ما هو متمثل في توسيع الدائرة التي يطبق فيها، فأخلاق الإنسان الحديث ليست بالضرورة أسمى من أخلاق البدائي، ذلك لأن الجماعات الإنسانية قد ارتضت أن تقيم تشريعاتها الخلقية على أساس من المنفعة الاقتصادية والسياسية الصريحة، إذ الفرد لم تهيئه طبيعته بميول التي تميل به نحو إخضاع مصالحه الشخصية لمصالح المجتمع، أو نحو طاعة القوانين المحرجة للصدور إذا لم يكن ثمة من الوسائل المنظورة ما يفرضها عليه بالقوة؛ فلكي تقيم المجتمعات على الأفراد حارساً غير منظور، ولكي تقوي فيهم الدوافع الاجتماعية ضد الدوافع الفردية بما تثيره فيهم من آمال قوية ومخاوف قوية، فإنها استخدمت الديانة وإن لم تخترعها .

ولقد عبر الجغرافي القديم "سترابو" عن أكثر الآراء تقدماً في هذا الموضوع منذ تسعة عشر قرنا فقال:

إنك في معاملتك لحشد من النساء، على أقل تقدير، أو معاملتك لأية مجموعة من الناس اجتمعت كما اتفق، لا تستطيع بالفلسفة أن تؤثر فيهم، أنك لا تستطيع أن تؤثر فيهم بالعقل أو أن تقنعهم إقناعا بضرورة الوقار والورع والأيمان كلا، بل لا بد لهم من الخوف الديني أيضاً. ولا يمكن إثارة هذا الخوف في نفوسهم بغير الأساطير والأعاجيب؛ فالصواعق والدروع والصولجانات والمشاعل ورماح الآلهة، كل هذه الأساطير، وكذلك منها اللاهوت القديم من أوله إلى آخره؛ لكن مؤسسي الدول حرصوا على هذه الأشياء باعتبارها عفاريت يُفزعون بها السُّذج من الناس؛ ولما كانت هذه طبيعة الأساطير )الميثولوجيا( ثم لما احتلت الأساطير مكانتها في إطار الحياة المدنية والاجتماعية كما احتلت مكانتها كذلك في تاريخ الوقائع الملموسة، فقد تمسك القدماء بنظمهم في تربية أطفالهم وطبقوها حتى سن النضوج، وآمنوا بأنهم يستطيعون بوساطة الشعر أن يهذبوا أية فترة من فترات الحياة عند الناشئ؛ أما اليوم، وبعد أن مرَ هذا الزمن الطويل، أصبح التاريخ وأصبحت الفلسفة في مقدمة ما يربى به النشء؛ مع أن الفلسفة لا تصلح إلا للقليل، بينما الشعر أصلح منها للشعب بصفة عامة".

إذن فسرعان ما تسبغ العقيدة الدينية على الأخلاق لونا من التقديس، لأن ما هو فوق الطبيعة يضيف أهمية يستحيل أن تكتسبها من تلقاء نفسها الأشياء التي نعرفها بالتجربة الحسية والتي نفهما بردها إلى أصولها، فالخيال أيسر وسيلة من العلم في حكم الناس؛ ولكن هل كانت هذه الفائدة الخلقية هي أصل العقيدة الدينية وأساسها؟


0 comments:

إرسال تعليق

Copyright © حديث السندباد القديم All Right Reserved
Designed by Harman Singh Hira @ Open w3.