الصناعة و الفن عند الانسان القديم - 1 - قهر الظلام
1 - قهر الظلام
لئن بدأت إنسانية الإنسان بالكلام، وبدأت المدنية بالزراعة، فقد بدأت الصناعة بالنار التي لم يخترعها الإنسان اختراعاً، بل الأرجح أن قد صنعت له الطبيعة هذه الأعجوبة باحتكاك أوراق الشجر أو غصونه، أو بلمعة من البرق أو باندماج شاءته المصادفة لبعض المواد الكيمياوية، ولم يكن لدى الإنسان في ذلك إلا ذكاء الذي يقلد به الطبيعة ويزيدها كمالاً؛ ولما أدرك الإنسان أعجوبة النار استخدمها على ألف صورة، أولها فيما نظن أن أتخذ منها شعلة يقهر بها عدوه المخيف، ألا وهو الظلام، ثم أستعملها بعد ذلك للتدفئة، وبذلك استطاع أن يتحرك مبعداً عن مناطقه الاستوائية إلى مناطق أقل منها إرهاقاً للقوى، وبهذا الانتقال أخذ شيئاً فشيئاً يعمر الكوكب الأرضي فيجعله مسكناً للإنسان، ثم بعد ذلك أخذ يستعمل النار في المعادن فيلينها ويطرقها ويمزجها في هيئة أشد صلابة وأكثر مرونة مما وجدها عليه أول ما وجدها؛ لقد بلغت النار في أعين البدائيين من الغرابة ومن النفع حداً جعلها لديه إحدى المعجزات التي تستحق أن تتخذ إلهاً وتُعبد، ولذلك أقام لها ما لا يحصى عدده من الحفلات التعبدية، وجعل منها مركزاً لحياته وبيته؛ وكان كلما انتقل من مكان إلى مكان، حملها معه معينا بها، لا يرضى لها قط أن تخمد؛ بل أن الرومان أنفسهم أعدموا العذراء الطاهرة عقاباً لها على إهمالها الذي كان من شأنه أن تنطفئ النار المقدسة.
على أن الإنسان، إذ هو لم يزل في مراحل الصيد والرعي والزراعة، ما أنفك مخترعاً، فكان الإنسان البدائي يشحذ زناد عقله لعله يجيب لنفسه إجابات عملية عما تثيره الحياة الاقتصادية في وجهه من مسائل؛ فقد كان الإنسان بادئ ذي بدء راضياً - في ظاهر الأمر - بما تقدمه له الطبيعة - كان راضياً بثمار الأرض طعاماً، وبجلود الحيوان وفرائه لباساً، وبالكهوف في سفوح التلال مأوى، ثم تلا ذلك، فيما نظن (فمعظم التاريخ ظن وبقيته من إملاء الهوى) أن أخذ في تقليد آلات الحيوان وصناعته؛ فلقد رأى القرد وهو يقذف بالحجارةوثمار الفاكهة على أعدائه، أو يكسر الجوز والمحار بالحجر، ثم رأى كلاب الماء تبني لنفسها السدود والطيور تهيئ الأعشاش والعرائش، والشمبانزي تقيم بيوتاً شبيهة جداً بما يقيم الإنسان من أكواخ؛ فحسدها على ما لها من قوة في مخالبها وأسنانها وأنيابها وقرونها، وعلى صلابة جلودها، فأخذ من فورهُ يعد لنفسه آلات وأسلحة على غرار ما للحيوان منها، بل تفوقها، فالإنسان - كما قال فرانكلن - حيوان صانع للآلات لكن هذه الميزة أيضاً - كسائر ما نُضفيه على الإنسان من ميزات نزهى بها ونفخر - إن هي إلا تفوق على الحيوان في الدرجة وحدها لا في النوع.
وكان النبات الذي يحيط بالإنسان البدائي مصدراً لكثير من الآلات، فمن الخيزران صنع الإنسان السهام والمدى والإبر والقوارير؛ ومن فروع الشجر صنع الملاقط والمماسك؛ ومن لحاء الشجر وأليافه صنع الحبال والثياب في صنوف شتى؛ وفوق هذا كله صنع الإنسان لنفسه العصا؛ ألا ما أبسطها اختراعاً لكنها من كثرة النفع بحيث لبث الإنسان ينظر إليها رمزاً للقوة والسلطان، من العصا السحرية عند عرائس الجن وعكازة الراعي إلى عصا موسى أو هارون، والعصا العاجية التي كان يمسك بها القنصل أيام دولة الرومان، والقضيب الذي يلوح به المنبئون بالغيب ثم الصولجان يمسك به القاضي أو الملك؛ ولقد انقلبت العصا في الزراعة فأساً، أما في الحروب فقد أصبحت حربة أو سهماً أو رمحاً أو سيفا أو سنكيا .
0 comments:
إرسال تعليق