فضل الانسان البدائى
"الهمجي" هو أيضاً متمدن بمعنى هام من معاني المدنية، لأنه يُعنى بنقل تراث القبيلة إلى أبنائه- وما تراث القبيلة إلا مجموعة الأنظمة والعادات الاقتصادية والسياسية والعقلية والخلقية، التي هذبتها أثناء جهادها في سبيل الاحتفاظ بحياتها على هذه الأرض والاستمتاع بتلك الحياة، ومن المستحيل في هذا الصدد أن نلتزم حدود العلم، لأننا حين نطلق على غيرنا من الناس اسم "الهمج" أو "المتوحشين" فقد لا نعبر بمثل هذه الألفاظ عن حقيقة موضوعية قائمة، بل نعبر بها عن حبنا العارم لأنفسنا لا أكثر؛ وعن انقباض نفوسنا وانكماشها إذا ما ألقينا أنفسنا إزاء ضروب من السلوك تختلف عما ألفناه؛ فلا شك أننا نبخس من قيمة هاتيك الشعوب الساذجة التي تستطيع أن تعلمنا كثيراً جداً من الجود وحسن الخلق؛ فلو أننا أحصينا أسس المدنية ومقوماتها لوجدنا أن الأمم العُريانة قد أنشأتها أو أدركتها جميعاً إلا شيئاً واحداً، ولم تترك لنا شيئاً نضيفه سوى تهذيب تلك الأسس والمقومات لو استثنينا فن الكتابة، ومن يدري فلعلهم كذلك كانوا يوماً متحضرين ثم نفضوا عن أنفسهم تلك الحضارة لما لمسوه فيها من شقاء النفس؛ وعلى ذلك فينبغي أن نكون على حذر حينتستعمل ألفاظاً مثل "همجي" و "متوحش" في إشارتنا إلى "أسلافنا الذين يعاصروننا اليوم"؛ ولقد آثرنا أن نستعمل كلمة "بدائي" لندل على كل القبائل التي لا تتخذ الحيطة، أو لا تكاد تتخذها، بحيث تدخر القوت للأيام العجاف، والتي لا تستخدم الكتابة أو لا تكاد تستخدمها؛ وفي مقابل ذلك، سنطلق لفظ التمدن على الأقوام التي في وسعها أن تكتب، وأن تدخر في أيام يسرها لأيام عسرها.
"إن نظام الوجبات الثلاث في كل يوم نظام اجتماعي غاية في الرقي، أما الأقوام الهمجية فهي إما أن تتخم نفسها دفعة واحدة أو تمسك عن الطعام" وإنك لترى أكثر القبائل توحشاً بين الهنود الأمريكيين يحكمون على من يدخر طعاماً لغده بضعف المراس وانعدام الذوق ، وكذلك ترى أهل استراليا الأصليين لا يستطيعون العمل كائنا ما كان ما دام جزاء العمل لا يجيئهم فور أدائه؛ وكل فرد من قبائل "الهوتنتوت" Hettentot هو بمثابة السيد الذي يعيش عيش الفراغ، والحياة عند قبيلة "البوشمن" Bushmen في إفريقية "إما وليمة وإما مجاعة" . وإن في قصر النظر هذا لحكمة صامتة، كما هو الحال في كثير من أساليب الحياة عند "الهمج"، ذلك أن الإنسان إذا ما بدأ يفكر في غده فقد خرج بذلك من جنة عدن إلى وادي الهموم، وحَلَّت به صُفرة الغم، وهاهنا يشتد فيه الجشع، وتبدأ الملكية، ويزول عنه البشر المتهلل الذي يعرفه الإنسان الأول "الخلي من كل تفكير"؛ إن الزنجي الأمريكي يمثل اليوم هذه المرحلة من مراحل الانتقال، فقد سأل "بيري" أحد أدلائه من الإسكيمو قائلاً "فيم تفكر؟" فكان جوابه: "ليس لدي ما يدعو إلى التفكير لأن لديّ مقداراً كافياً من اللحم" فكون الإنسان لا يفكر إلا إذا اضطر إلى ذلك، قد يكون جُماع الحكمة، وقد يكون لهذا الرأي سند قوي يدعمه.
ومع ذلك فتلك الحياة التي خلت من الهموم، كانت لها صعابها؛ والأحياء التي استطاعت أن تجتاز تلك المرحلة في تطورها، استفادت بذلك ميزة كبرى تساعدها في تنازع البقاء؛ فالكلب الذي اختزن تحت الثرى عظمة فاضت عن شهيته، وإنها لشهية الكلاب، والسنجاب الذي ادَّخَر البندق لوجبة أخرى في يوم مقبل، والنحل الذي ملأ خليته بالعسل، والنمل الذي خزن زاده أكداساً اتقاء يوم مطير- هذه جميعاً كانت أول منشئ للمدنية، فقد كانت هي وإضرابها من المخلوقات الراقية أول من علم أجدادنا فن ادخار ما نستغني عنه اليوم إلى الغد. أو اتخاذ الأهبة للشتاء في أيام الصيف الخصيبة بخيراتها.
فيالها من مهارة تلك التي استخرج بها أولئك الأجداد من البر والبحر طعاماً كان بمثابة الأساس لمجتمعاتهم الساذجة! لقد كانوا ينتزعون بأيديهم المجردة انتزاعاً ما يستطيعون أكله مما يبديه سطح الأرض من أشياء، وكنت تراهم يقلدون أو يستخدمون مخالب الحيوان وأنيابه، ويصنعون لأنفسهم آلات من العاج والعظم والصخر، وينسجون الشباك والمصائد والفخاخ من خيوط الحلفاء والليف، ويصطنعون من الوسائل عدداً لا يحصى لاصطياد فريستهم من يابس أو ماء؛ لقد كان لأهل بولينزيا شباك طولها ألف ذراع لا يستطيع استخدامها إلا مائة رجل مجتمعين، وبمثل هذا تطورت وسائل ادخار القوت جنباً إلى جنب مع النظم السياسية، وكان اتحاد الناس في تحصيلهم للقوت مما أعان على قيام الدولة، أنظر إلى السَّمَّاك من قبيلة "ثِلِنْجِتْ" Thlingit إذ كان يضع على رأسه غطاء يشبه رأس عجل البحر، ثم يخفي نفسه بين الصخور ويصرخ بمثل صوت ذلك الضرب من الحيتان، فتأتيه عجول البحر، فيطعنها بسنان رمحه، لا يجد في ذلك ما يؤنبه عليه ضميره، لأنه يتم على أوضاع يرضاها القتال في صورته البدائية، وكان من عادة كثير من القبائل أن يُلقى سماكوها مادة مخدرة في مجرى الماء ليهون عليهم استجلاب السمك بعد تخديره؛ فأهل تاهيتي- مثلاً- كانوا يلقون في الماء سائلاً مسكراً يصنعونه من صنف معين من البندق أو ضرب معروف لديهم من النبات، فتسكر الأسماك وتطفو على السطح مخمورة لا تحذر الخطر، فيمسك منها السَّمَّاك ما أراد؛ والأستراليون الوطنيون يسبحون تحت سطح الماء، ويتنفسون خلال قصبات من الغاب، فيتاح لهم أن يجذبوا البط السابح من سوقه إلى جوف الماء، ويظلون ممسكين به هناك في رفق حتى تسكن فيه حركة الحياة؛ وأبناء قبيلة "تاراهيومارا" كانوا يمسكون الطير بأن يلقوا لباب البندق على ألياف قوية ويربطوه بتلك الألياف التي يغرسونها إلى نصفها في التراب، فيقتات الطير من اللباب، ثم يقتات "التاراهيوماريون" من الطيرإن الصيد عند كثرتنا الغالبة اليوم ضرب من اللهو، نستمد فيه اللذة- فيما أظن- من بعض الذكريات الغامضة الراسخة في دمائنا والتي تعيد لنا تلك الأيام القديمة حيث كان الصيد عند الصائد والمصيد كليهما أمراً تتعلق به الحياة أو الموت، ذلك لأن الصيد لم يكن سبيلاً إلى طلب القوت وكفى، بل كان كذلك حرباً يراد بها الطمأنينة والسيادة، حرباً لو قَرَنْتَ إليها كل ما عرفه التاريخ المدوَّن من حروب، ألفيت هذه الحروب بالقياس إليها بمثابة اللغَط اليسير. وما يزال الإنسان في الغابة يقاتل في سبيل الحياة، لأنه على الرغم من أن الحيوان هناك لا يكاد يهاجمه مختاراً إلا إذا اضطره إلى ذلك الجوع الشديد أو الخوف من الوقوع فريسة لا يجد لنفسه مهرباً يلوذ به، فليس في الغابة قوت يكفي الجميع، وأحياناً لا يظفر بطعامه إلا المقاتل أو الذي يستخدم لنفسه حيواناً مقاتلاً، وهاهي ذي متاحفنا تعرض أمام أبصارنا بقايا تلك الحرب التي نشبت بين الإنسان وسائر الأنواع الحيوانية، إذ تعرض أمامنا المُدى والهراوات والرماح والقسى وحبال الصيد والأفخاخ والمصائد والسهام والمقاليع التي استطاع بها الإنسان الأول أن يفرض سيادته على الأرض، ويمهد السبيل أمام خَلَفٍ لا يعترف بالجميل، ليحيا حياة آمنة من كل حيوان إلا الإنسان. وحتى في يومنا هذا، بعد كل ما نشب من حروب تستبعد العاجز عن الحياة لتبقي على القادر، انظر كم من صنوفالكائنات الحية ما يزال على وجه الأرض يسعى! لقد يحدث أحياناً إذا ما مشى الإنسان خلال الغابة متريضاً، أن تأخذه الدهشة العميقة لكثرة ما سمع هنالك من لغات، ولكثرة ما يرى من أنواع الحشرات والزواحف وآكلة اللحوم والطير. إن الإنسان ليحسُّ عندئذ أنه متطفل قد أقحم نفسه إقحاماً على هذا المشهد بما فيه من زحمة الأحياء، وأنه مخوف يخشاه الحيوان جميعاً ويمقته الحيوان جميعاً مقتاً لا ينتهي. ومن يدري فلعل يوماً يُقبل على الدنيا فإذا هذه الصنوف من ذوات الأربع في دمدمة أصواتها، وهذه الحشرات التي كأنما هي اليوم تستدر عليها عطف الإنسان، وهذه الجراثيم الضئيلة التي تنوه بما عساها أن تصنعه، لعل يوماً يقبل على الدنيا فإذا هذه الصنوف جميعاً تلتهم الإنسان التهاماً بكل ما صنعتهُ يداه وأنشأت، فتنقذ الكوكب الأرضي من هذا الحيوان ذي الساقين الذي لا يفتأ يجول ناهباً سالباً، وهذه الأسلحة العجيبة المصطنعة، وهذه الأقدام التي تجوس في غير حذر!
0 comments:
إرسال تعليق